خبيرة قانونيّة في الشأن الدولي والبترولي
لم يبدأ النزاع في المنطقة حين انطلقت الصواريخ الأولى، ولا حين مسحت مدن تحت عناوين «مكافحة الإرهاب»، ولا حتى حين ازدحمت الشاشات بصور الدمار. بدأ قبل ذلك، يوم قرّر البحر أن يفضح ما كان يُدار في الخفاء. يوم تحوّل القاع من جسدٍ جيولوجي صامت إلى نصٍّ سيادي مكتوب بالقوة، ومن عمقٍ طبيعي إلى غرفة عمليات. منذ تلك اللحظة، صار ما تحت الماء أبلغ خطرًا مما فوقه، وصارت الصواريخ مجرّد ضجيجٍ أعلى لمعركة حُسمت سلفًا في الأعماق.
الإرهاب هنا ليس فعلًا معزولًا ولا فوضى عمياء، بل لغة مُدارة: نارٌ في السماء لتعمية العين، وخرائط تُرسَم في القاع بلا شهود. ما يجري على اليابسة ليس سوى ستار كثيف، بينما الحقيقة تُدار في ظلمة البحر، حيث لا يُرى الدم... لكنه يُخزَّن، طبقةً فوق طبقة، كما تُخزَّن المصالح، وكما يُعاد ترتيب الخسارة على أنها قدر. ومن هناك، لا من السطح، يُكتب اليوم تاريخ هذه المنطقة. لا في بيانات القمم، ولا في خطابات السلام المصقولة، بل في الأعماق التي لا تصرخ، لكنها تختزن. في القاع، تُتَّخذ القرارات التي تُحدّد من يُسمَح له أن يعيش، ومن يُترك لينتظر، أو يُحاصَر، أو يُداس. الإرهاب الذي يُدان على الشاشات ليس سوى العرض المرئي، أمّا الإرهاب الحقيقي فيُمارَس بصمت: إرهاب الحرمان، إرهاب التجويع الطاقي، إرهاب نزع السيادة قطرةً قطرة، حتى يفقد الاعتراض صوته، ويغدو القبول سياسة.
هكذا يُعاد تشكيل الشرق الأوسط لا بوصفه موطن شعوب، بل بوصفه شبكة طاقة. لا كجغرافيا ذاكرة وتاريخ، بل كخريطة أنابيب وممرّات تُدار بمنطق القوة وحده. وزن الدول لم يعُد يُقاس بعدد سكانها، ولا بعمق تاريخها، بل بقدرتها على لمس القاع. من يملك الأعماق، يملك الخنق. ومن يُمنَع عن البحر، لا يُحاصَر عسكريًا فقط، بل يُفرَّغ اقتصاديًا، ثم يُدفع ببطء إلى العجز، ثم يُعاد تشكيل وعيه ليقبل بما فُرض عليه لا كاغتصابٍ للحق، بل كخيار نجاةٍ أخير.
وفي هذا البحر الممتد من شاطئ غزة المُسيَّج بالنار، مرورًا بجنوب لبنان المُنهك والمعلّق على حافة الانهيار، وصولًا إلى الساحل السوري الذي تبدّلت عليه الأعلام والأساطيل، تُكتب اليوم نسخة جديدة من المنطقة. نسخة لا تُعلن نفسها، لكنها تحكم كل ما عداها.
فغزّة، التي تُدفَع على اليابسة إلى حافة الإبادة، تُحاصَر في البحر أيضًا. لا بالبارجات وحدها، بل بما يُسمّى «منطقة العزل» تسمية مخادعة تُغلّف الجريمة بلغة تقنية، فيما حقيقتها أنها جدار غير مرئي يُقام في الماء ليعزل غزة عن حقّها الطبيعي في الحياة. هناك، على مرمى أميال قليلة من الشاطئ، يرقد غاز «غزّة مارين» كجثة مؤجَّلة، ثروةٌ مُكبّلة لأن فكّ قيودها يعني كسر منطق الحصار. كان يمكن لهذا الغاز أن يكون كهرباءً لا تنقطع، ماءً لا يُبتزّ، اقتصادًا لا يمدّ يده، لكنه حُوِّل عمدًا إلى «ملف أمني». ليس لأن الخطر فيه، بل لأن الخطر فيما يمنحه: القدرة على الوقوف بلا إذن. لذلك لم يُمنع الغاز لأنه غير مجدٍ، بل لأنه مُحرِّر. فالتحرر في قاموس هذه المنطقة، جريمة مؤجَّلة العقاب.
وما يحدث قبالة غزّة لا يختلف جوهريًا عمّا يُحضَّر قبالة جنوب لبنان. هناك أيضًا، في المساحة التي تتقاطع عندها البلوكات 8 و9، لا نتحدّث عن أرقام تقنية لرقع بحرية، بل عن مساحة ضغط استراتيجي تُدار بالزمن لا بالصواريخ. السيناريو نفسه يُعاد، لكن بأسماء أكثر نعومة: «منطقة أمنية»، «منطقة استثمار»، «منطقة تجارة حرّة». مفردات أنيقة لشيء واحد فظّ: منطقة عازلة خارج نطاق السيادة اللبنانية مقابل وعود «الإستقرار». وعود تشبه تلك التي سُمِّمت في خريف 2022، حين لم يكن تنازل لبنان عن حقل كاريش تفصيلًا تقنيًا ولا تسوية عابرة، بل لحظة إدخال البلد رسميًا إلى معادلة الطاقة بوصفه طرفًا مُدارًا لا شريكًا سياديًا. منذ تلك اللحظة، صار الغاز وعدًا مؤجَّلًا.
في هذا السياق تحديدًا، لا يعود الكلام عن «الغاز المصري» مجرّد حلّ تقني لأزمة كهرباء لبنانية، بل يدخل في صلب ما وصفته دراسات معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى منذ خريف العام الماضي عن «السلام الممكن» للبنان. فالمعهد الذي لا يكتب خارج حسابات القرار، أشار بوضوح إلى أن مسار «إنقاذ لبنان بالكهرباء» قد يمكن في إعادة دمجه بمنظومة طاقة إقليمية تكون إسرائيل مركزها ومحورها. الغاز الذي سيصل عبر «الخط العربي»، مرورًا بالأردن وسوريا، لا يُسأل عن مصدره، لأن السؤال نفسه غير مرغوب. المهم أن يصل التيار، لا أن تُعرف اليد التي تتحكم بالمفتاح.
وهنا تبلغ المفارقة ذروتها، قاسيةً حدّ الألم. فالبلد الذي طُلِب منه بالأمس أن يتنازل عن كاريش باسم «الاستقرار»، يُستدعى اليوم ليشكر على كهرباء مشروطة بالاستقرار نفسه. كأن التنازل لا يكفي، بل يجب أن يُقدَّم بوصفه فضيلة، وأن يُعاد تدويره على هيئة نعمة. ليس التزامن بين إتمام أكبر صفقة تصدير غاز في تاريخ الاحتلال، لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر حتى عام 2040، وبين إعادة إحياء مشروع تمرير الغاز من مصر إلى لبنان، مجرّد مصادفة زمنية عابرة. إنّه تزامن محمّل بالدلالة، ويكاد يكون توقيعًا غير مرئي على آلية واحدة تُدار بهدوء: تطبيع الطاقة قبل تطبيع السياسة. آلية تقوم على معادلة واضحة: دع الشعوب تتنفّس كهرباء... مقابل أن تتخلّى عن حقّها في أن تُنتجها. ليس المطلوب إنهاء العتمة، بل إدارتها. ليس المطلوب كسر الحصار، بل جعله قابلاً للاحتمال. كهرباء تُمنح لا لتؤسّس سيادة، بل لتؤجّلها. طاقة تُقدَّم لا بوصفها حقًا، بل كامتياز قابل للسحب، مشروط بالهدوء، وبالصمت، وبالقبول بما فُرض سلفًا.
وفي هذا الواقع المُعلَّق، يقف الساحل السوري عند تقاطع نفوذٍ روسيٍّ ثقيل وحضورٍ أميركيٍّ قويٍّ، حضور لا يظهر بالأساطيل وحدها بل بالقدرة على ضبط الإيقاع الطاقي الإقليمي. هنا لا يُدار البحر بوصفه مساحة إنتاج، بل كمساحة تحكّم. فالقواعد البحرية التي ثبّتت روسيا عبرها موطئ قدم استراتيجي، تتقاطع مع مظلة نفوذ أميركية تُمسك بملفات الطاقة والعقوبات ومسارات العبور، لتنتج حالة تجميد محسوبة: لا استخراج يُربك التوازنات، ولا فتح يُفقد الورقة قيمتها. القاع يُترك في حالة سكون متعمّد، ليس لأنه بلا ثروة، بل لأن توقيت الثروة أخطر من الثروة نفسها. في هذا المشهد، يتحوّل الساحل السوري إلى عقدة صامتة في شبكة شرق المتوسط، حلقة وصل محتملة ومفتاح تعطيل في آن، تُدار بوصفها ورقة ضغط لا بوصفها موردًا اقتصاديًا. من طرطوس إلى اللاذقية، لا يُطرح سؤال متى يبدأ الاستخراج، بل مَن يملك قرار السماح، ومَن يملك حق الإبقاء على المنع. هكذا تصبح السيادة زمنًا مؤجَّلًا، والثروة وعدًا مُعلَّقًا، والبحر دفتر انتظار تُسجَّل فيه موازين القوى قبل أن تُعلَن القرارات. سوريا، في هذا السياق، لا تُختزل في دمارها البرّي ولا تُقصى عن معادلة الطاقة، بل تُثبَّت في قلبها بوصفها ساحلًا يُمسَك به لا ليُستثمر، بل ليُستخدم... إلى أن تكتمل هندسة النفوذ في الأعماق.
في قلب هذا المشهد، لا تتحرّك إسرائيل كطرفٍ منخرط في نزاعٍ مفتوح، بل كعقلٍ بارد يُعيد ترتيب الإقليم بصمت. تسعى، بثقة لا تخلو من القسوة، إلى تكريس نفسها مركزَ ثقلٍ طاقيًا في شرق المتوسط بحلول 2050 لا عبر زيادة الإنتاج فحسب، بل عبر بناء منظومة هيمنة كاملة تُمسك بالخيوط غير المرئية: مسارات التدفّق، نقاط العبور، أسواق التصدير، ومفاتيح المنع والسماح. هنا، لا يُقاس النفوذ بعدد الآبار، بل بالقدرة على تحويل الطاقة إلى أداة ضبط سياسي شامل. من يتنفس، ومن يختنق، من يُضاء، ومن يُترك في العتمة... وحقول الغاز الممتدة من كاريش إلى تمار وصولًا إلى ليفياثان ليست مشاريع اقتصادية محايدة، بل ما يمكن تسميته دون مبالغة «تاج الأمن الطاقي الإسرائيلي». وفي العقيدة الاستراتيجية الجديدة، لم تعد السيطرة البحرية مكمّلًا للتفوّق العسكري، بل صارت شرطًا لبقائه. الاتفاقات الثنائية، التراخيص المتسارعة، الشراكات العابرة للحدود، وحتى ما يُسوَّق على أنه «مبادرات استقرار»، جميعها تتحرّك ضمن مسار واحد: تحويل إسرائيل من كيانٍ ساحلي إلى بوابة طاقة إقليمية، ومن لاعبٍ بين لاعبين إلى مُنظِّم للسوق نفسه. هكذا، لا يعود البحر حدًا جغرافيًا، بل مجالًا حيويًا ممتدًا، لا تُرسم حدوده بالخرائط الرسمية، بل بالأنابيب والعقود وشبكات النفوذ.
وفي هذه المعادلة، تُقصى سواحل غزة ولبنان وسوريا تحت مسمى «مناطق عزل» لأن إخضاعها شرطٌ لنجاح المركز. تُترك غزة محاصَرة كي لا تمتلك استقلالها الطاقي، لأن الاستقلال أخطر من السلاح. يُعلَّق لبنان بين الوعد والابتزاز ليبقى مستهلكًا لا شريكًا، ينتظر الكهرباء كما ينتظر الإذن. وتُجمَّد سوريا في حالة انتظار طويلة، لا فراغ فيها ولا انفتاح، بل تثبيت محسوب لساحلٍ لا يُسمح له أن يفتح عقدة جيوسياسية قبل أوانها.
وفي هذا المشهد، يُرفَع غُصنُ الزيتون فوق مكامن الغاز كما تُوضَع قطعةُ شاشٍ بيضاء على جرحٍ مفتوح: لا لتضميده، بل لإخفاء عمقه، ولإيهام الناظر بأن النزيف تحت السيطرة. ما يجري في المنطقة ليس سلامًا، بل إدارة باردة للألم، تُستأصل فيها الإرادة وتُترك الحياة تعمل عند حدّها الأدنى، كي تبقى قابلة للتحكّم. هكذا تُعاد صياغة جغرافيا المنطقة كجسدٍ مُخدَّرٍ جزئيًا: يتحرّك بلا قرار، ويُدار بلا اختيار. تُرسَم الخرائط في الأعماق، وتُقسَّم السيادة كما تُقسَّم المسكّنات-جرعات محسوبة لا تشفي، بل تُطيل الوجع وتُنظّم استمراره. والسؤال الذي لا مهرب منه: كم دمًا يلزم بعد، وكم شعبًا يجب أن يُترك ينزف ببطء، قبل أن نعي بأن السلام الممدود بيد الجلاد ليس وعدَ حياة، بل شهادة وفاةٍ مؤجَّلة تُوقَّع باسم الاستقرار؟